حج لا يشبه الحج

بنزين سكينة الأربعاء 26 يونيو 2024

 

تبدو الأشياء كاملة ومثالية عندما نجتهد في رسم معالمها بعيدا عن أرض الواقع. وكلما كان الأمر مرتبطا بالدين وعوالمه المقدسة،  كلما كانت تصوراتنا منفصلة عن واقع يجتهد من عايشه في تجميله، أو لعله يعيش تجربة استثنائية في عوالم موازية.

 وإلى وقت قريب، قبل أن تقتحم كاميرات الهواتف الذكية الفضاءات المقدسة، كان الحج بالنسبة لنا رحلة روحية استثنائية. تذكرة عبور مفصلية وولادة جديدة يعود بعدها الحاج كيوم ولدته أمه، وطقس ينخرط فيه الحجاج لمحاكاة تفاصيل شعائر من زمن النبوة، حيث يحمل كل شبر في الأرض المقدسة قصة من قصص الأنبياء و الملائكة، الصحابة والصالحين، الجن والشياطين،  المألوف والمعجزة  ... إنه محطة سنوية تنحت على مدار قرون نفس المشاهد/ الأركان، ما ضمن وقع قداستها في النفوس.

وهو أيضا محطة تفتح الباب أمام تمرين جماعي لأمة تضم أعراقا وثقافات وطبقات تصل الفوارق بينها حد التناقض، ما يجعل من هذا الركن فرصة لإذابة كل الفوارق، أو التعرف عليها وتقبلها أو عرضها على ميزان ديني في فضاء مقدس يشكل مهبط الوحي، مع كل ما تحمله هذه الصفة من ثقل معنوي كفيل بجرفك نحو تجربة استثنائية فارقة في مسيرة المسلم ... أو هكذا وقر في النفس قبل أن تكون هناك عين هاتف تغنيك عن وساطة عين عاشت التجربة بكل تفاصيلها.

فبفضل معجزة العصر المسماة "هاتف ذكي"، ستتزحزح مفاهيم يبدو أنها أخذت قدسيتها من وجداننا الشخصي بالدرجة الأولى، حيث اكتشفنا أن الحج للبعض لا يختلف عن رحلة عادية يلتقط فيها الزائر سيلفي مع الكعبة، وفي جبل عرفة، وفي الطواف ورمي الجمرات، وخلال ترديد الأدعية، كما تجتهد الزائرات في اختيار الزاوية المثالية لضمان صورة تحصد أكبر عدد من اللايكات، مع تصوير "فلوغات" التسوق واقتناء الهدايا وخدمات الفنادق، والإطلالات من نوافذ إقامات الخمس نجوم، التي تثبت أنه لا سواسية في الحج كما أخبرونا، ولا اجتهاد في الانقطاع عن روتين "دنيوي" في أيام معدودات تفرض إيقاع "روتين مقدس" يضمن ولادة جديدة.

وبفضل الهاتف دائما، اكتشفنا أننا كمسلمين من كل بقاع الأرض، نحمل معنا أعطابنا لنباركها في المكان المقدس ونعود متمسكين بها خلف ستار لقب حاج وحاجة. كما اكتشفنا أننا نشد الرحال للمقام المقدس دون تجهيز مسبق، بعد أن اقتصر مفهوم الاستطاعة على ما هو مادي وبدني، دون كبير التفات للاستطاعة الأخلاقية والروحية، وإلا كيف نفسر أنه في وقت يفترض فيه وقوف الحاج بين يدي الله منقطعا عن العالم من حوله، نجده يفتح هاتفه ليوثق لبكائه ودعائه وطوافه غارقا في ريائه المحرم شرعا، أو يهتك ستر حاج آخر من خلال تصويره دون علم منه ليتحول إلى مادة للتنذر، أو فظا في محاولاته الوصول إلى الحجر الأسود حتى لو كان على حساب سلامة من هم أضعف منه بدنا.

واستنادا دائما إلى "شهادة الهاتف"، اكتشفنا أن هناك حج "عادي وحج كلاس"، ففي العادي ازدحام وأوساخ وشكايات ونوم في العراء وتملص الوكالات، وقصص محزنة لمسنين فارقوا الحياة في ظروف كانت فوق استطاعتهم البدنية بعد أن وفرت مدخراتهم ما يشبه "الاستطاعة المادية"،  بينما توفر طقوس حج "النخبة" إقامات فاخرة وظروف نقل مريحة و أكلا من المطابخ العالمية، و تنوب الخيام المجهزة الفردية عن الخيام الجماعية، ضمن مسارات خاصة تحول دون اختلاطهم مع زوار بيت الله من "الدرجة الثانية"، وهو مشهد "تراتبي" كان من شأنه أن يكون عاديا، لولا الدعاية المثالية التي نحتها دعاة ومشايخ عن حج يبدو أنه لا يشبه الحج.