بناء بلد على خلفية عقدة واحدة أو عقد متعددة أمر غير سوي كثيرا. أما بناء سياسة هذا البلد لستين سنة على ركام من هذه العقد، فأمر جد سيئ.
وفي الجزائر، ومنذ لحظة تصويت الفرنسيين على التخلص من الجزائر الفرنسية، وبدء الشروع في صنع (الدولة) المستقلة هناك، كان واضحا أن عدم التخلص من العقد كلها سيكون ذا تأثير كبير على المستقبل هناك، وهو ما نعيشه حاليا، ونحن نتابع آخر فصول تصفية الحساب مع هاته العقد في البلد الجار.
فرنسا ضاقت ذرعا بما تسميه «ريع الذاكرة»، الذي تبنته «الدولة» في الجزائر معها، وجعلته وسيلتها للتفاوض المستمر لكي تستطيع «نسيان آلام الاستعمار، وجراح الأمس»، وهي في الحقيقة لا تريد من خلال طرحه المستمر إلا أن تنسي الشعب الجزائري في التفكير فيما يعيشه اليوم، وتريد أن تنسيه الأهم: التفكير فيما صنعته هذه «الدولة» للمستقبل هناك.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
المتنفذون القاطنون في «المرادية» منذ الحصول على الاستقلال، أي قدماء العسكر وكبار المستفيدين من «ريع الذاكرة» هذا، يعرفون أن هذا الموضوع هو الشيء الوحيد الذي يستطيعون تقديمه للناس هناك، وخصوصا للشباب. والمفارقة هي أن هذا الشباب لا يعني له هذا الموضوع أي شيء، فهو يفكر فقط في الحصول على عمل يضمن له العيش بكرامة وشرف، ويتيح له إنشاء أسرة، والحصول على ما يريد في الحياة الحقيقية الآن وغدا.
بعبارة أخرى مترهلو ما وقع ذات زمن بعيد، يريدون إبقاء الجيل الجديد أسير «مصالحة قسرية» لم تتم، ولن تتم لأن حجم الالتباس المحيط بكل ظروفها كثير.
وماكرون يوم ذهب إلى الجزائر، مقتنعا أنه يستطيع إقناع الحكام هناك بصدق نيته في الموضوع، وبعد أن أنشأ اللجنة الشهيرة حول الذاكرة المشتركة، وبعد أن استمع لبينجامان سطورا ومن معه كثيرا، وبعد أن وضع كل أكاليل الزهور التي طلب منه الجزائريون وضعها فوق كل تماثيل شهدائهم، قالها مباشرة وبصراحة للرئيس تبون «إننا لم نختر تاريخنا، لكننا ورثناه، وعلينا معا، فرنسا والحزائر، ألا نجعله عائقا أمامنا لبناء المستقبل».
صادقت الجزائر يومها على كلام ماكرون مشترطة ربطه بأهم وأكبر عقده لديها: المغرب.
قال الجزائريون بكل الطرق لفرنسا إنهم مستعدون لكل التنازلات الممكن تصورها في حكاية «التاريخ المشترك» هاته، شريطة عدم الانتصار للجار الغربي، المغرب، في أي قضية.
وقد بقيت فرنسا مصدقة أنها يمكن أن تقوم بهذا الأمر، وأن تترك لهذه المنطقة الرمادية أن تصنع لها توازنا ما مع الجزائريين، لكنها اقتنعت أخيرا أنهم لن يتخلصوا من العقدتين (إنشاؤهم من طرف فرنسا، وتفوق الجار الغربي عليهم) ليس لأنهم لا يستطيعون، ولكن لأنهم لا يريدون، ولأن الانتهاء من حكاية التباكي على الماضي الاستعماري، والانتهاء من حكاية مساندة حق مزعوم لشعب مزعوم على أرض مغربية بالتاريخ والجغرافيا والمستندات والأرشيف والوثائق، يعني سقوط دولة العسكر هناك، لا أقل ولا أكثر.
لذلك نعيش فصل التوتر الجديد بين حكام الجزائر وبين الجمهورية الفرنسية، ونحن غير بعيدين عنه، لأننا سببه الأساس، يوم قال ماكرون «نعم الصحراء مغربية، هذا أمر لا شك فيه».
قالها بعد أن قالتها إسبانيا، وهي فاعل رئيس آخر في الحكاية، وبعد أن قالتها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي من هي في الموضوع، من حمل القلم إلى المكانة في مجلس الأمن الدولي، وفي العالم بأسره.
لذلك كان لا بد من رد فعل، وها نحن نعيش آخر إرهاصاته، التي رأينا بعضا منها في السابق، لكن المتغير الأساس هذه المرة هو ما بدأنا به الكلام: ضيق فرنسا من المتاجرة بالماضي الاستعماري، ومن إصرار حكام الجزائر على استمرار «ريع الذاكرة» متدفقا، وضيق فرنسا أساسا من امتداد التطاول عليها من المنابر الإعلامية والرسمية الجزائرية إلى التهديد بالقيام بأعمال عدائية على أرضها، وتلويح تبون ذات نزق برقم الستة مليون ويزيد من الجزائريين المقيمين فوق الأراضي الفرنسية، وكيف أنه يستطيع تحريكهم بمجرد إشارة منه.
هنا، دخلت حكاية الحكم بالعقد مرحلة أخرى أخطر، علم كل من يتابع هذا الملف أو يهتم به أن فرنسا لن تتقبلها، وأن شيئا ما (حقيقيا هذه المرة) قد انكسر بشكل نهائي في الاتفاق الفرنسي/ الجزائري، ولن يعود أبدا إلى الترميم.
فوق وتحت جماجم الشهداء، اليوم، يفتح متحف الحكم بالعقد أبوابه للراغبين في زيارة «الماريستان» الشرقي الموضوع قربنا بظلم جغرافي فاضح وواضح، علما أن هذه الزيارة قد تكون الأخيرة، لأن المتحف سيغلق أبوابه قريبا، وسينسى الكل جماجم الميتين القديمة، وسيبحث عن طريقة لملء جماجم الأحياء بأدمغة نظيفة ومشتغلة وقادرة على النظر إلى الأمام، إلى المستقبل، وهذا هو الأهم الذي عجز القابعون في الماضي هناك عن استيعاب ضرورته منذ سنوات، وفهم العالم كله أنه من غير المعقول ولا العاقل البقاء أسرى عدم فهمهم هذا إلى نهاية الزمان.
هل نستطيع أن نقول «انتهى الكلام» في هذه؟