تثار بين الحين والآخر نقاشات بخصوص وضع الصحافة ببلادنا، ورغم أن بعض النقاشات قد تنزاح عن الموضوعية، سواء بإنتاج خطاب الاطمئنان، أو باستمراءالتبخيس والمزايدة.
لا يمكن أن نجاري خطاب الاطمئنان، لأن واقع الحال يشي بمجموعة من الأعطاب الذاتية والموضوعية، وعلى مستويات كثيرة، يتداخل فيها القانوني بالمهني، والتنظيمي بالتدبيري، كما لا يمكن أن نصادق على المقولات العدمية التي منذ مدة ليست بالقصيرة، وهي تؤبن الصحافة الوطنية إلى ما تعتقده مثواها الأخير.
تعيش الصحافة المغربية وضعا غير مسبوق، يتقاطع مع ما تواجهه الصحافة في العالم كله، من تحديات مرتبطة بالانتقالات المعرفية والرقمية، كما توجد الكثير من عناصر الخصوصية التي أوصلتنا إلى وضع غير مريح، لكنه كذلك وضع تعتمل داخله عناصر من شأن الاستثمار الإيجابي فيها، أن يعيدنا إلى السكة التي يمكن أن تحمل قطار الصحافة والإعلام إلى المحطة، حيث يمكن إعادة ترتيب المشهد الإعلامي بما يمكنه من الخروج من حالة الفوضى والالتاباسات.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
وسنحاول أن نقدم بعض عناصر الإجابة، التي تحتاج إلى تطويرها عبر النقاش داخل مجتمع الصحافيين/ات، شريطة الابتعاد ما أمكن عن الأنانيات، وصراعات الماضي، والبحث عن التموقعات خارج إطار المنافسة الشريفة، وباعتماد آليات تكرس الوضع القائم.
** حرية الصحافة : بين الإطلاقية والمسؤولية
حين يتم الحديث عن حرية الصحافة، ففي الغالب يتم استخدام مصطلح "مناخ الحريات"، ورغم الطابع الاستعاري لهذه الكلمة، فإنها تتضمن حمولة دلالية لافتة، ذلك أن المناخ متغير، بتبدل الفصول والظواهر الطبيعية التي لها علاقة بالطقس، وهو حال حقل الحريات في الصحافة، ذلك أن لها ارتباطا بالواقع الذي تنمو فيه، فهي غير مرتبطة حصرا بسلوك السلطة: حاكمة كانت أم متنفذة، مادية أو رمزية، بل هي مرتبطة بمناخ عام، أي بنسق، تتداخل فيه عوامل كثيرة، من بينها، ولعله أهمها، هو تمثل المجتمع لقيمة الحرية، وفي الحقيقة فإن المجتمعات لا تتفاضل في مسألة الحرية بمعيار الأسقف المقبولة اجتماعيا لممارسة الحريات الفردية والجماعية، ذلك أن ثمة عنصرا آخر يجب الانتباه له، وهو عنصر الثقافة ( يخلطه البعض مع الهوية)، فالثفافات بطبعها متباينة، وهذا ما يمنح العالم أفقه المتعدد والمنفتح، وثفافة مجتمع ما محددة ضمنيا لتمثلات أفراده للحرية، وهذه التمثلات تحدد بدورها ضمنيا المسموح به وغير المرغوب فيه.
ومن هنا صعوبة عمل الصحافي، ذلك أنه مطوق من جهة بنقل ما يقع، والتعليق عليه، ومطوق في الآن نفسه بترجمة خط تحريري ما، بخلفية ما، وبموقف ما فيما يتعلق بالحريات الفردية والجماعية، ومطوق من جهة ثالثة بإكراهات مجتمعية، عليه مراعاتها، حتى لا تتكرس تلك التمثلات التي عند بعض الفئات المجتمعية من كون الصحافة هي أداة لهدم القيم والأخلاق، وأن الإعلام جزء من مؤامرة دولية لنشر القيم غير المتوافقة مع قيم المجتمع.
أما في العلاقة مع السلطة، فأعتقد أننا يجب أن نقدم تأويلا جديدا لمعنى السلطة الرابعة، فالذي ترسخ أن هذه السلطة الرابعة هي سلطة مضادة للسلط الأخرى، وهو تأويل ملتبسـ قد يوهم بأنها بالضرورة سلطة معارضة، والحال أنها سلطة مكملة، وقد تتوافق مع السلطة المدبرة للشأن العام، أو يحصل بينهما تنافر، وفي كلتا الحالتين فهي تلعب أدوارا تساهم في توازن السلط، وفي تقاطعها، وفي توزيع المهام بينها، بشكل صريح تعاقدي، أو بشكل ضمني يدخل في إطار التقاليد التي تكاد ترقى لمستوى القاعدة القانونية الملزمة.
ومع الهجمات التي تتعرض لها الدولة الوطنية من أجل تفكيكها، أو إضعاف سلطتها، لصالح مجموعات المصالح المالية أو قوى الهيمنة الخارجية، فإن الصحافة يمكن أن تقوم بمهام تدخل في إطار تحصين اللحمة الوطنية الجامعة، والتي من مظاهرها الدفاع عن المؤسسات الوطنية، وفضح كل المؤامرات التي تستهدف إضعافها، كمقدمة لتفكيك الدولة الوطنية ذاتها.
وسواء في العلاقة مع المجتمع، أو في العلاقة مع الدولة، فإن ثمة متدخلا آخر، يزاحم الصحافة على مهامها ووظائفها، ويتمثل في شبكات التواصل الرقمي الجماهيرية، والتي لا زال العالم لم يهتد لأي وصفة من أجل تقنينها، بما لا يمس بمبدأ الحرية، وبالتالي فإن هوامش الحرية المتاحة أمامها أوسع، كما أن احتمالات انزياحاتها الأخلاقية والقيمية أكبر، فتصبح ملجأ الباحثين عن الممنوع والتابو بمعنييهما السلبي والإيجابي، مع الإقرار أن المنحى الاستباحي للحدود الأخلاقية هو المحدد الأول لفعل التلقي في تلك الفضاءات.
تحتاج الصحافة تبعا لكل ما سبق، إلى تفاوضات جديدة مع المجتمع ومع الدولة، لإعادة بناء قواعد اشتغال جديدة تحافظ على المكتسبات المرتبطة بالحريات، وتراعي مسؤولياتها الوطنية والأخلاقية والثقافية، على أن تكون هذه القواعد مرنة، وقابلة للتطور بحسب التراكمات الحاصلة في الأنساق المجتمعية، وفي السياقات السياسية، في ارتباط بأفق الديموقراطية المرتبط جدليا بالمحافظة على مؤسسات الدولة وفاعليتها وقوتها.
** أخلاقيات المهنة: المضاد الحيوي للإثارة والتشهير والابتزاز .
إن حديثنا عما يكتنف وسائط التواصل الاجتماعي من انتشار للتشهير، والفبركة، والإثارة، لا يعني تبرئة كل الجسم الصحافي من الوقوع في هذه المحظورات الأخلاقية والقيمية والمهنية والقانونية.
إذ ثمة الكثير من المواقع الصحافية التي أصبحت تحاكي ما يقع في وسائط التواصل الاجتماعي، فتعمد إلى التنافس مع صفحات التشهير والإثارة في جلب المشاهدات بأي طريقة كانت، دون التقيد بميثاق أخلاقيات المهنة.
ولا يمكن أن نبرر لمثل هذا التوجه، بالقول إنه حتى في الدول الأوروبية، وفي أمريكا يوجد ما يسمى صحافة "البيبل"، فثمة فوارق كثيرة، ومنها أن رسوخ الممارسة الصحافية المهنية إنتاجا وتلقيا منذ سنوات طويلة، أفضى إلى وجود تقاليد في القراءة والفرجة وفي تلقي المنتوج الإعلامي عموما، تجعل صحافة "البيبل" وظاهرة "الباباراتزي" مستهجنة داخل السواد الأعظم من الجسم الصحافي، بل إن البعض يطلق عليها اسم الصحافة الموازية.
كما أن قيمنا الثقافية والقيمية، القادمة سواء من مرجعياتنا الدينية، أو باقي التعبيرات الهوياتية، والتي كانت موضوعا للخطب الملكية الأخيرة، وهي القيم التي تعطي اعتبارا لمفاهيم "السترة" و"لوقار" المستمدة من روح "تمغرابيت" تجعل التطبيع مع التشهير والإثارة والفرجة المجانية انتهاكا لمنظومة القيم هذه، مما يجعل التصدي لهده المسلكيات واجبا على كل من له غيرة على نبل المهنة.
لقد كانت مثل هذه الظواهر محايثة للمشهد الصحافي، ولكنها كانت مركونة إلى الهامش، وظل أغلب الجسم الصحافي محصنا ضدها، حتى في أشد لحظات التوتر السياسي.
غير أن ما يحدث اليوم، هو أن البعض ينحو هذا المنحى، ولا يبخث عن جلب المشاهدات عبر إعادة بعض مما يروج في "تيك توك" و"يوتيوب" و"أنستغرام" من محتويات تعتمد الإثارة المجانية، واختلاق الخصومات الوهمية والابتزاز والابتذال والأخبار المادية ، في إعادة إنتاج بئيسة للتفاضلات على أسس مبتذلة.
وهذا الخرق لأخلاقيات المهنة، يؤدي في كثير من الحالات إلى خدمة أجندات معادية لبلادنا بوعي أو بدونه، إذ إن التركيز على موضوعات للإثارة والشعبوية و الخالية من الدقة المعلوماتية والمغلفة بالتهويل، وغيرها من البذاءات، يخدم في النهاية تلك التمثلات الخاطئة عن جزء من المجتمع المغربي التي تم تشييدها بسوء نية طوال سنوات متلاحقة، وللأسف فإن الكثير مما ينشر في إعلامنا يقدم مادة لمن يسعى لتكريس هذه الصور النمطية السلبية.
وفي اعتقادنا أن المجلس الوطني للصحافة ( واللجنة المؤقتة التي حلت محله) عليه أن يتحمل مسؤولياته في اتجاه محاصرة هذه الظاهرة، والقيام بالمتعين في مواجهة جرائم التشهير والابتزاز والأخبار الكاذبة والإشاعات ، كما على الجهات المعنية كل في دائرة اختصاصاته، العمل على التحقق من الكثير من المعطيات والوقائع المتسمة بالغرابة، والتي قد يشجع على الاختلاق والفبركة.
في المحصلة، فإن أي محاولة لإصلاح المشهد الإعلامي، وتطويره تستلزم الانطلاق من نقاش حقيقي حول ثلاثية: الحريات والحقوق والأخلاقيات، في علاقتها بالمسؤولية.
المسؤولية بأبعادها المهنية والأخلاقية والوطنية.