زاكورة تحتفل بالذكرى 50 لتأسيس جمعية الشعلة

متابعة الأربعاء 16 أبريل 2025


في مساء جنوبي دافئ كانت زاكورة تستعد لعرس استثنائي، عرس لا يشبه الأعراس التقليدية بل أقرب إلى القصائد حين تتفتح في صمت الواحات وتفوح بعطر النخيل بعد أولى زخات المطر حيث كانت السماء توزع غيثها بسخاء وكان التراب يستقبل هذا الكرم كما تستقبل القلوب قصائد المحبة حين بدا كل شيء في المدينة الصحراوية كأنه يوشوش بأن زاكورة على موعد خاص مع لحظة ليست عادية، مع فصل جديد تكتبه جمعية الشعلة في كتاب الذاكرة.

زاكورة التي اعتادت على مقاومة قسوة الجغرافيا بالصبر والكرم والحلم، تحولت في تلك الأمسية إلى ذاكرة حية إلى كتاب مفتوح على خمسين سنة من التوهج والعمل الدؤوب، خمسون سنة من التربية على الأمل ومن تحويل الثقافة إلى حق يومي لا يقبل التأجيل ومن جعل الحلم مشروعا تربويا وثقافيا ملموسا. حفل الذكرى الخمسين لتأسيس جمعية الشعلة ما كان مجرد احتفال بل لحظة تأمل ووفاء، لحظة لقاء بين جيلين، وهم جيل الرواد الذين حملوا الحلم على أكتافهم العارية وزمن الأبناء والأحفاد الحالمين بمغرب جدير بأطفاله وشبابه، الذين جاؤوا ليجددوا العهد حاملين ألعابهم وأناشيدهم في قلوبهم، حاملين سؤالهم النبيل: كيف نصنع من هذا الوطن بيتا يتسع للجميع؟

منذ الساعة الرابعة، بدأت القاعة تستقبل الزوار من كل حدب وصوب: أبناء الجبال والواحات أطفال بعيونهم اللامعة نساء بوشاحاتهن المزركشة بألوان الواحات، شيوخ يحملون أثقال الذكريات الخالدات. بدا وكأن زاكورة قررت بكامل وعيها الجماعي أن تقول للشعلة شكرا لأنك كنت هنا، لأنك زرعت فينا حب المعرفة، وحرقة الأسئلة، ولأنك حولت صمت الطفولة إلى غناء، وحولت الفضاءات المغلقة إلى مسارح مفتوحة للحلم.

في جو ساده شعور عارم بالدفء والترحاب وجوه باسمة وأصوات الأطفال تصدح في الأفق بأهازيج وأغان تنبض بالحياة في القاعة كانت الأنوار تضيء مسرحا ينتظر لحظة البوح، افتتح الحفل بصوت الطفلة رشيدة الحايكي وهي تتلو آيات من الذكر الحكيم بصوت شفاف كأنه ناي يعزف للسماء، فامتلأت القاعة بجو من السكينة والروحانية وتلا ذلك أداء النشيد الوطني، ثم نشيد الجمعية، وبعده نشيد "فرحتي"، فحمل الحضور إلى البدايات الأولى، إلى زمن لم يكن فيه شيء سوى الإيمان الصادق بقيم المواطنة، واليقين بأن التربية ممكنة، وأن الثقافة ضرورة، وأن الطفولة تستحق أكثر مما هو كائن.

الكلمات التي تلت هذه الافتتاحية لم تكن خطبا عابرة هي رسائل حب واعترافات بالجميل تجديدا للعهد مع القيم التي بنت جسور التواصل بين أجيال الشعلة. وعندما صعد الأستاذ سعيد العزوزي إلى المنصة، ألقى كلمة مؤثرة ألهبت مشاعر الفخر والانتماء من قلب مدينة النخيل والواحات ومن وسط رمزية وطنية نضالية متجذرة في عمق الجنوب الشرقي، عبر فيها عن اعتزازه الكبير بكل مكونات هذه المدينة الأصيلة، مؤكدا أن اختيار زاكورة كمحطة للاحتفاء ليس صدفة بقدر ما هو اعتراف مستحق بدورها الريادي في مسار الجمعية.

في تلك اللحظات لم يكن فقط رئيسا للجمعية، كان ابنا بارا لتلك الشجرة التي اسمها "الشعلة"، تحدث بلغة الحالمين ممن شبوا وترعرعوا في كنفها بلغة من يعرف أن الزمن الجمعوي لا يقاس بعدد السنوات بل بما يتركه من وشم في الذاكرة المجتمعية ومن أثر في الأرواح والعقول مستعرضا تاريخ الجمعية كمن يفتح ألبوم صور عائلية، كل صورة تحكي قصة وكل قصة تنضح بتضحية وكل تضحية تضيء الطريق أمام الأمل.

زاكورة كما وصفها العزوزي لم تكن محطة عابرة في مسار الجمعية بقدر ما هي القلب النابض والمكان الذي آمن بأن المسرح والموسيقى والرسم والرقص والقصة والشعر وحلقات التكوين ...أدوات للتربية والثقافة، وأن الفن حوار راق، وأن الأطفال يستحقون من يحتضن أحلامهم لا من يكرس تهميشهم وعزلتهم عن التحولات الاجتماعية المنفتحة على المستقبل ....

"ليست خمسينية الشعلة مجرد ذكرى عددية"، يقول رئيس الجمعية، بل هي لحظة وفاء لتاريخ نضالي طويل، ومحطة تأمل في مسار نصف قرن من حمل مشعل الأمل، وغرس قيم المواطنة، والإبداع، والحق في الثقافة كرافعة للتحرر والتنمية. واستحضر في كلمته الأثر العميق الذي تركته الجمعية عبر فروعها ومنضاليها في كل جهات الوطن، مؤكدًا أن زاكورة لم تكن يومًا على الهامش، بل كانت وستظل من الحلقات المضيئة في هذا المسار.

وفي مشهد مؤثر حيى رئيس الجمعية كل الأطر التي حملت المشعل في أحلك الظروف، وساهمت في تأطير الطفولة، وتنمية اليافعين، وإطلاق المبادرات الثقافية وسط بيئات تعاني من التهميش، مؤكدا أن "العزيمة الشعلوية" حولت فضاءات بسيطة إلى ورشات للحرية، ومنابر للتعبير، ومدارس للذوق والإبداع.

وأكد أن جمعية الشعلة ليست مجرد إطار جمعوي بل هي مدرسة وطنية لصناعة القيم ولتكريس روح الالتزام والمواطنة الحقة والعمل التطوعي، مبرزا أن المناسبة استحضار لأمجاد لماضي ورسم لملامح المستقبل برؤية تربط بين الأصالة والتجديد وتعطي الكلمة للشباب والفعل للثقافة.

واعتبر رئيس الجمعية أن اختيار المدن البعيدة عن المركز للاحتفال بالخمسينية ومن بينها زاكورة هو تأكيد على الإيمان العميق بعدالة مجالية حقيقية ورسالة بأن "المغرب الحقيقي يوجد هنا في الجنوب الشرقي وما شابهه من جهات وأقاليم حيث تشتغل فروعنا بإمكانات بسيطة ولكن بإرادة جبارة تحقق المستحيل.

وفي ختام كلمته توجه بتحية شكر وامتنان إلى كل من ساهم في تنظيم هذا العرس التربوي والثقافي من قدماء الجمعية، إلى الجمعيات الصديقة، إلى أهل زاكورة الذين احتضنوا الشعلة منذ بداياتها وختم بالقول: فلنواصل حمل المشعل... ولنجعل من الثقافة والتربية سلاحا للتغيير... ومن الطفولة والشباب مشروعا حقيقيا لبناء المستقبل."

أما مريم العمراني مندوبة فرع زاكورة، فقد ألقت كلمة تنبض بالفخر والانتماء، مؤكدة أن زاكورة، مدينة النخيل والواحات، كانت دوما شعلة مضيئة في دربها الطويل وأشارت بصوت مفعم بالاعتزاز إلى أن إشعاع الفرع يعانق كل الجماعات والواحات، من محاميد الغزلان إلى تاكونيت، ومن تامكروت إلى تينزولين..... حيث يزرع المتطوعون بذور الأمل وسط رمال التحدي كما توجهت بتحية عالية للأطر التي حملت المشعل في وآمنت بجدوى الرسالة التربوية والثقافية وقيمها النبيلة، وجعلت من الثقافة والتربية قناديل تضيء عاتمات التهميش ودعت الشباب بعين الأمل إلى احتضان الشعلة كمدرسة حقيقية للتربية على المواطنة وحقوق الإنسان ومجال رحب لاكتشاف الذات والمشاركة في صناعة التغيير وختمت بدعوة حالمة: فلنجعل من الذكرى موعدا للانبعاث ومن زاكورة نقطة انطلاق جديدة نحو غد أجمل.

وعندما حل موعد التكريم الأول بدت لحظة صامتة لكنها عميقة في معناها وأشبه بصلاة جماعية حين صعد الرواد يتقدمهم رئيس الجمعية وعضو المكتب الوطني حسن صبوري وكأنهم يصعدون إلى منصة النور والأمل ... كل واحد يحمل في قلبه حكاية، تسلموا دروعا رمزية لكنها حملت في طياتها الكثير من الامتنان، وكانت التصفيقات بمثابة ترجمة للعرفان، بينما تسللت لحظات الصمت لتقول ما عجزت عنه الكلمات في هذه اللحظات التي تختزل كل المسارات.

بعد ذلك جاء دور الفن كما تحبه الشعلة، فعلا تربويا يلامس الإنسان في أعماقه، هي فرقة "جذور الصحراء" أطلقت أهازيجها فبدت الرمال ترقص طربا والقلوب تنبض على إيقاع النغم الصحراوي الأصيل توالت الفقرات الفنية كأنها نهر منسجم يهمس للواحات بأسرار الحلم مسرحية "من حقي نقرا" جسدت واقع أطفال المغرب العميق، أبناء الوادي والريح، الذين يصرون على التعلم كأنه فعل مقاومة، واحتفاء بالحياة في وجه النسيان.

ثم جاءت لحظة الأداء باللغة الإنجليزية حين صدحت أصوات أبناء زاكورة بانفتاحهم على العالم مؤكدة أن الهوية لا تتناقض مع الانفتاح، بل تغتني به وأن الثقافة لا تعرف حدود اللغة

 التكريم الثاني خص الأساتذة الذين غرسوا الأمل في صخر الصحراء، وجعلوا من الرياضة و الفن والتعليم رسالة وليس وظيفة روتينية ومشهد الاحتفاء بهم كان لوحة وفاء حقيقية رسمتها نظرات المحبة والامتنان والرغبة في مواصلة التحدي..

ثم جاءت رقصة "الحق سلاحي"، حيث جسد الأطفال القيم التي تربوا عليها بجسومهم الصغيرة كما لو أن أجسادهم باتت لغة تنطق بما عجزت عنه الحروف وتوالت اللحظات لتصل إلى لحظة "الغيوان"، العودة إلى الجذور إلى الحي المحمدي إلى تلك المعزوفات التي صنعت الوجدان الجمعي لجيل بأكمله وكانت تفتح نوافذ للأمل في جدران الصمت.

ولأن الشعلة تؤمن بالشراكة والتنوع جاءت جمعية شباب تمكشاد برقصة "الركبة" الصحراوية  تدق الأرض كمن يكتب رسالة حب على الرمل فيتحول الرقص إلى شهادة حياة... وتواصلت الفقرات الفنية بلوحات مستلهمة من فلسطين، حيث لم يكن الرقص ترفا، بل فعل تضامن، وكانت أوبريت فلسطين لحظة شعورية كثيفة، تحولت فيها القاعة إلى مرآة للوجع والأمل معا ثم جاءت مسرحية "الفلسطيني"، التي لم تكن مجرد عرض مسرحي بقدر ما شكلت  سؤال كبير عن الحرية والعدالة، عن الإنسان، وعن معنى أن نحلم في زمن القهر لتعود رقصة "جذور الصحراء" لتجسد العلاقة بين الإنسان والأرض حيث بدت الرقصة كأنها نشيد وفاء وكأن الأرض نفسها تنطق عبر الأجساد لتقول لجميع الحاصرين الشعلة فخر الانتماء  ومع ختام الحفل، كانت فرقة "شهب" تعزف مقطوعتها الختامية حيث رقصت زاكورة كلها في لوحة ختامية جمعت الحب والوطن والتربية في لحظة وجد نادرة.

الجنوب حين يحتفل لا يكرم الماضي فقط، بل يوقع عقدا جديدا مع الحياة، مع الأمل، مع الحلم، ومع الإنسان. وفي تلك الليلة الزاكورية، كانت جمعية الشعلة تفتح أبواب الذاكرة لتقول إن خمسين عاما من النضال التربوي ليست سوى بداية وأن الطريق لا يزال مفتوحا أمام قصائد جديدة، تكتب كل يوم في قلوب الأطفال وعيون الحالمين.